زيارة "ميدان التحرير" خلال ملحمة التغيير التي اجتاحت البلاد فيما سمي بثورة "25 يناير" تعطيك قراءه جلية لمستقبل مصر بعد زوال النظام الذي حكم 30 عاما.
فهناك انصهرت كل ألوان الطيف المصري من منسيين ومهمشين ومستورين، وأنشئوا دولة الثورة وحكومة الثورة وشعب الثورة، ليشكلوا أسمى آيات التلاحم الوطني والاجتماعي التي تقف الكلمات حائرة عن وصفها، فسطروا انتصارا سيبقى راسخا في الذاكرة.
لم يكن إسقاط النظام والحرية أهم إنجازات ثورة شباب المحروسة، رغم عظمة وجلالة ذلك، لكن المصريين في "دولة ميدان التحرير" استردوا وحدتهم وعزتهم، والأهم أن جيلا شابا سيخرج من هناك بطلا مسلحا بالفضيلة ويحمل ثقافة الحوار والتعددية.
تصوروا تجمعا بشريا يتجاوز الآلاف ومئات الآلاف أحيانا أخرى، حتى وصل الجمع مليونين وأكثر ، بالتأكيد الصورة مرعبة في اكثر الأحيان، الا هناك.
فكل التيارات والطوائف التقت في ميدان التحرير بكل تناقضاتها وأشكالها، وتشاطروا الهم والخبز والقصيدة، وحتى الهدف. واتحدوا جميعا تحت راية واحدة "عشانك يا مصر".
ننحني تعظيما لثورة شباب اختارت الخلاص
نعشق "فجر تونس الجديد".. يرعبكم ويلهمنا
لقد نال ميدان التحرير لقب "المدينة الفاضلة" بكل معانيها، فلا تحرش ولا حشيش ولا خمور ولا ابتذال، ولا حتى حادث سرقة واحد. وكانت النظافة المستمرة والأخلاق العالية الصفتان الأبرز لذلك المركز الذي تصدر الأخبار حول العالم كرمز للثورة المصرية ومعقلا لفتيان قرروا أن يعيدوا كتابة التاريخ ويستردوا القيم الفاضلة التي اغتصبت بشكل ممنهج ومنظم على مدى العقود الماضية.
هناك اتحد الجميع على أن ثورتهم ليست من أجل لقمة عيش نظيفة فقط، ولا تهدف لإسقاط مبارك فحسب، بل كانت ثورة ثقافية منذ بدايتها، وكأنهم يقولون نحن المصريين الحقيقيين وميدان التحرير هذا يمثل المقولة المشهورة "هي دي مصر"، وليس الأفلام والمسلسلات و الفضائيات التي تلوث صورة هذا الشعب العظيم.
هناك يستمع الجميع لكل من أراد الحديث، حتى لو كان كمثل أحدهم الذي وقف فجأه وسأل: "إنتم هنا بتعملوا ايه؟"، فتبرع أحد المعتصمين في الميدان ليشرح له الحكاية بكل تفاصيلها، فرد ذلك الشخص: " يعني ممكن أشتغل معاكم؟". فحصل على وظيفة بالحال، وبأجر ايضا تبرع به بعض المجتمعين هناك.
يتوزعون على الميدان بشكل منظم، كل حسب كفاءته وتخصصه. فالأطباء مثلا لعبوا دورا كبيرا وشجاعا ، حيث أنشئوا مستشفا ميدانيا وزودوه بأجهزة متطورة واستطاعوا معالجة عدد كبير من جرحى "الغزوات" التي كان يشنها بعض البلطجية المدعومين من بعض رموز النظام السابق.
كما أن الثوار أصدروا جريدة اسمها "ميدان التحرير"، وهي عبارة عن نشرة من صفحة واحدة تركز على أخبار الثورة وتعمل على ترسيخ مفاهيم الشجاعة والثبات وتعزز الحماس وحتمية الانتصار.
أما "إذاعة الثورة" فقد لعبت دورا محوريا في ديمومة العنفوان الثوري في الميدان، وشكلت منبرا حرا لكل ألوان الطيف السياسي والاجتماعي والثقافي، كما تناقل "مايك" الإذاعة مواهب عديدة عبرت عن نفسها بالأغاني الحماسية أو الشعر الثوري، بالإضافة الى استعادة أغاني "الشيخ إمام" وأشعار عبد الرحمن الأبنودي وغيرهم.
وجولة قصيرة في ارجاء الميدان تستطيع أن ترى "جدارية" عبرت عن طبقات الشعب. فهذا يطالب النظام بالرحيل بأسرع وقت لأنه "اشتاق لزوجته" وآخر يقول " "انجز عاوز أروح أستحمى" ، ورجل أربعيني يجول بلافتة كتب عليها "أريد إسقاط النظام لأنه أسقطني في الثانوية"، وتلك المجموعة التي تريد "مصر نظيفة من الفساد"، وغيرهم يطلب "وظيفة لله يا محسنين" و "رغيف عيش بلا مسامير" و"شقة حتى لو عشة"، ولافتة ضخمة تغطي صدر الميدان "الشعب يريد إسقاط النظام".
وبعد أن أعلن مبارك تنحيه عن الحكم، رفع أحد المحتجين لافتة كتب عليها "إني اتنفس حرية"، وبجانبه لوحة اعلنت عن نهاية الملحمة ولكن بالانجليزية "The End".
ميدان التحرير أو ملحمة وسط البلد أعلنت انتصارها، ورحل الرئيس المصري حسني مبارك يوم الجمعة ، نفس اليوم الذي غادر فيه الرئيس التونسي زين العابدين بن علي كرسي الحكم قبل شهر، وبنفس الساعة تقريبا.
وبالحالتين تسلم الجيش السلطات سلميا، وبالحالتين أيضا لعب الجيش دورا "ملائكيا" في حماية الثورة والثوار وإنجازاتهم العظيمة.
في الحالة المصرية، كان على الجيش أن يختار بين حماية قائده الأعلى أو إسقاطه، فاختار مصر وأهل المحروسة فالتحم مع الثورة ليعيد لبلده مكانتها بين الأمم بما يليق بحضارتها وعظمة شعبها، ليشارك برسم غدٍ جديدٍ مشرق، ستعم شمسه بالدفء والحرية على كل العالم العربي.