حسن البنا.. الرجل والمنهج
رسالة من: أ. د/ محمد بديع- المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ومن والاه..
يقول الله تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: 23)، ويقول تعالى: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ (آل عمران: 169).
ونحن نستحضر ذكراه في يوم استشهاده (12 فبراير) الحادي والستين، فإننا ندرك أن الرجل قد مضى إلى ربه راضيًا مرضيًّا، فقد اخترقت الرصاصات الغادرة ليلتها جسدًا أفناه السجود ليلاً بين يدي الله، وأضنته الرحلة في سبيل الله نهارًا في ربوع مصر وقراها، من أقصاها إلى أقصاها، أما الروح والمنهج والبناء الذي أرساه فقد بقي شامخًا، يزداد على مرِّ الزمان رسوخًا وتألقًا، وقد أعطاه الإمام الشهيد المؤسس من دمه الطاهر الزكيِّ وقودًا ومددًا لم ينقطع، بل استمرَّ المدد بدماء الشهداء ودموع الساجدين بين يدي الله، وأنَّات المعذبين في غياهب السجون، وتضرُّعات الملايين من السجناء وأسرهم إلى الله رب العالمين، وثبات الذين ضحَّوا بالغالي والنفيس في سبيل عقيدتهم وفكرتهم ومنهجهم ابتغاءَ رضوان الله رب العالمين؛ فالله غايتهم، والرسول صلى الله عليه وسلم قدوتهم، والجهاد سبيلهم، والشريعة منهجهم، والموت في سبيل الله أسمى أمانيهم، صدقوا الله فصدقهم الله.
وكان له من اسمه نصيبٌ وافرٌ؛ فقد أرسى بناءً ضخمًا شامخًا، واستقى من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم منهجًا واضحًا بيِّنًا للإصلاح والتغيير؛ لتحقيق هدفٍ سامٍ نبيلٍ، هو نهضة الأمة الإسلامية، وإحياء مجدها، واستعادة عزتها وريادتها في العالم أجمع، بعد تحرير أوطانها وإعادة الكيان الدولي لهذه الأمة.
هذا المنهج مرسومةٌ خطواتُه، محددةٌ معالمه، يستقي الحكمة من قول الحق تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11) وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الأنفال: من الآية 53)، وقوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ (آل عمران: من الآية 165)، وقوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ (النحل: 112).
فرسَم خطة العمل العملية والموضوعية، التي أثبتت الأيام جدواها ونفعها حين فشل غيرها من الخطط المستعجلة البراقة.. خطة تبدأ بإصلاح الفرد، وتكوين البيت المسلم، وإرشاد المجتمع إلى الفضائل ومحاربة المنكرات، وتستمر بتحرير الأوطان من كل هيمنة وسلطان أجنبي، وإصلاح الحكومات حتى تسير على منهج الإسلام، وتنتهي بإعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية وأستاذية العالم كله، دون وصاية من أحد على أحد، بل هي الإنسانية العالمية التي جاء بها الإسلام.
ويقول في بواكير الدعوة عن أساسها الذي ترتكن إليه “من أين نبدأ؟”:
“إن تكوين الأمم، وتربية الشعوب، وتحقيق الآمال، ومناصرة المبادئ؛ تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو من الفئة التي تدعو إليه على الأقل إلى قوة نفسية عظيمة، تتمثل في عدة أمور: إرادة قوية لا يتطرَّق إليها ضعف، ووفاءٌ ثابتٌ لا يعدو عليه تلوُّن ولا غدرٌ، وتضحيةٌ عزيزةٌ لا يحُول دونها طمع ولا بخل، ومعرفةٌ بالمبدأ وإيمانٌ به وتقديرٌ له، يعصِم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره..
على هذه الأركان الأولية التي هي من خصوص النفوس وحدها، وعلى هذه القوة الروحية الهائلة تُبنى المبادئ، وتتربَّى الأمم الناهضة، وتتكوَّن الشعوب الفتية، وتتجدَّد الحياة فيمن حُرموا الحياة زمنًا طويلاً”.
وكل شعب فقد هذه الصفات الأربع أو على الأقل فقدها قواده ودعاة الإصلاح فيه، فهو شعبٌ عابثٌ مسكينٌ، لا يصل إلى خير، ولا يحقِّق أملاً، وحسبه أن يعيش في جوٍّ من الأحلام والظنون والأوهام.. ﴿إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ (يونس: من الآية 36).
هذا هو قانون الله تبارك وتعالى وسنته في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلاً: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11).
وأعلن بوضوح أن نهضة الأمة لن تتحقق إلا على أسس الإسلام وقواعده، وهذا ما استقرَّ بعد استشهاده في يقين الأمة، وعبَّرت عنه جموع المسلمين في كل استفتاء أو انتخابات حرة نزيهة بتأييدها للمشروع الإسلامي.
يقول البنا رحمه الله: “إذا كان الإخوان المسلمون يعتقدون أن الله تبارك وتعالى وضع في هذا الدين القويم كل الأصول اللازمة لحياة الأمم ونهضتها وإسعادها؛ فهم يطالبون الناس بأن يعملوا على أن تكون قواعد الإسلام الأصول التي تُبنى عليها نهضة الشرق الحديث في كل شأنٍ من شئون الحياة، ويعتقدون أن كل مظهر من مظاهر النهضة يتنافَى مع قواعد الإسلام ويصطدم بأحكام القرآن؛ فهو تجربةٌ فاسدةٌ فاشلةٌ، ستخرج منها الأمة بتضحيات كبيرة في غير فائدة”.
وقد أثبتت الأيام ووقائع الزمان منذ أكثر من قرن أن كل تجارب النهوض التي عاشتها الأمة وصلت إلى طريق مسدود، وأننا ما زلنا نبحث عن الاستقلال الحقيقي، والإرادة الحرة، والعدالة الناجزة، والعدل الاجتماعي، ودولة القانون، والحريات العامة، وتداول السلطة، التي يستمدُّها الحكام من الأمة في انتخابات حرة، رغم مرور عصور جرَّبت فيها الأمة حينًا الليبرالية، ومرةً الاشتراكية أو الشيوعية، ومراتٍ الانقلابات العسكرية، فجنينا الشوك والحصرم وعُدْنَا من حيث بدأنا..
فها هي قوات الاحتلال الأجنبية من أكثر من 40 بلدًا، تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، تحتل فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال..
وها هي القواعد العسكرية الأمريكية تنتشر على الأراضي العربية والإسلامية من المحيط إلى المحيط، مرورًا بالخليج..
وها هي الاتفاقات الأمنية تكبِّل الحكومات الإسلامية، وتضع جيوشها وقوات شرطتها في مواجهة شعوبها أو ضد جيرانها من المسلمين..
كل ذلك رغم المظاهر الشكلية للاستقلال، من أعلام ودساتير ووزارات وبرلمانات، ورغم كل اتفاقيات الجلاء، بل تمَّ استنزاف ثروات العرب والمسلمين؛ أفرادًا وحكوماتٍ، مؤسساتٍ وشركاتٍ، لتضيع في مغامرات أباطرة المال ودهاليز البنوك الربوية التي تأكل الربا أضعافًا مضاعفةً، وها هي تضيع بالتريليونات وليس بالمليارات، والجوع يفتك بأكباد ملايين المسلمين، والمخيمات تملأ بلاد المسلمين وتعجُّ بضجيج الجوعى والمنهكين من الشيوخ والنساء والأطفال.
ورغم كل ذلك فإن المؤتمرات والمؤامرات التي كانت تنعقد سرًّا خلال قرن من الزمان تنعقد الآن علنًا، جهارًا نهارًا، ويحضرها المسئولون من بني جلدتنا، المعيَّنون بأمر القوى الأجنبية؛ ليتآمروا على أبناء أمتهم، ويراهنوا على دعم الأجانب ضد شعوبهم، ويا للعجب!! مؤتمران في نفس اللحظة في لندن عاصمة الإمبراطورية التي ما زالت تمارس دور المحتل؛ الذي وإن رحلت قواته في مشهد خدَّر مشاعر الملايين فها هي تتآمر- رغم كل لجان التحقيق الشكلية التي لم تغنِ شيئًا- وتتواطأ وتأتمر بأمر قيادة العالم الجديد، عالم الظلم والطغيان والفساد، لإرسال المزيد من القوات وإنفاق المزيد من الأموال، لأي هدف ولأجل أي غرض، لا لشيء إلا لقطع الطريق على نهضة حقيقية في بلاد المسلمين، تتحقَّق بسواعد أبنائها، وتترسَّم خطى نبيِّها، وتسير على منهج إسلامها.
وها هو العالم كله- بأممه المتحدة ومجتمعه الدولي- يظاهر كيانًا عنصريًّا بغيضًا، دنَّس أرض فلسطين، وانتزع أشجار الزيتون، ودمَّر بيارات العنب، وشرَّد ملايين الشيوخ والنساء والأطفال، الذين أصبحوا شيوخًا ولم تسقط من أيديهم مفاتيح بيوتهم يتوارثونها جيلاً بعد جيل.
رغم كل الجرائم البشعة التي ما زالت تلك العصابة الإجرامية تمارسها ولن يكون آخرها اغتيال الشهيد “محمود عبد الرءوف المبحوح” في الإمارات العربية المتحدة على يد عملاء الموساد، الذين حضروا برفقة الوزير الصهيوني الذي دنَّس أرضًا عربيةً تحت عَلَم مؤتمر دولي، ويحملون جوازاتٍ أوروبيةً، ورغم عشرات القرارات الدولية؛ فإن العالم كله- ومعه المتخاذلون من قادة الأمة العربية والإسلامية- لا يستطيعون الوقوف في وجه ذلك الاحتلال، ولا يملكون حسابه على جرائمه البشعة، وآخرها استخدام الفوسفور الأبيض المحرَّم دوليًّا، والذي اعترف باستخدامه في حرب غزة منذ عام، بل يدعمونه بالمال والسلاح والعتاد والرجال، بل يؤمِّنون له سلامًا وأمنًا باتفاقيات وجدران، ويمنعون المقاومة الشجاعة من ممارسة حقها المشروع، بل يمارسون عليها كافة الضغوط ويستخدمونها ورقةً في المساومات.
إن حسن البنا الرجل لم يمُت، بل هو باقٍ بما رباه من رجال، وإن فني الجسد النحيل الذي أنهكته الأسفار والرحلات في سبيل الله، فإن الروح باقيةٌ ترفرف حول الأمناء على الدعوة الذين يحملونها في ربوع الأرض كلها في قارات الدنيا الخمس.
وإن أحداث الزمان أثبتت صدق المنهج وسلامة المسيرة.
فيا أيها الإخوان.. سيروا على بركة الله.. كونوا أوفياء لعهدكم مع الله.. ادرسوا كتاب الله لتتعلموا منه طريقكم المرسومة خطواته، وتحلَّقوا حول سيرة رسولكم صلى الله عليه وسلم لتعلموا أن منهجكم إنما هو التطبيق العصري العملي لسيرة نبيكم صلى الله عليه وسلم.
اعملوا.. واعملوا.. واعملوا.. ولا تيأسوا؛ فالمستقبل لدعوتكم، والنصر لأمتكم.. ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة: من الآية 105) صدق الله العظيم.